الــمقــدمــة:
للمدينة ذاكرة مجسمة تغوص في المستقبل
مثلما تغوص في الماضي رغم أنها دائما تعبر عن الواقع الحاضر، "أركيولوجية
المدينة" تتمثل في هذه الطبقات الزمنية التي تتحول إلى واقع مادي يجعل من
المدينة عبارة عن حلقات متداخلة ومتراكمة يصعب تفكيكها لكنها تبث داخلنا
"الحس الزمني"بكثافة، حتى أننا لا نجد سجلا بصريا بالغ الدقة يضاهيها
فهو سجل متحرك يقبل الجديد دائما ، فكل حلقة جديدة تزيد من التداخل الزمني في
المدينة وتثري فيها التفاصيل الدقيقة إلى درجة أنها تمثل "السجل
الاجتماعي"الذي يقدم العلاقات البينية الغير مرئية وبصورة بصرية ساكنة ظاهرا
ومتحركة ومتغيرة في الداخل.
إن المدينة تعيش "هويات
متعددة"نابعة من هوية كلية هي الذاكرة الثلاثية الأبعاد "زمنيا"، إلا
أننا نشعر بذلك الخط الذي ينقلنا داخل جدار الزمن ، ليذكرنا كيف تشكلت المدينة
نتيجة تراكم الأحداث ويقول لنا أن المدينة"حالة
إنسانية طبيعية" طالما أن الإنسان دائم الحركة والتغيير وفي حالة بحث دائم عن
"عمارة جديدة للأرض" الأمر الذي يفرض عليه البحث عن تقنيات جديدة
باستمرار.
الإشكالية هي عندما يحدث خلل في التركيبة
الزمكانية للمدينة وتصبح الحالة المشوهة هي السائدة ، فنحن لا نستطيع أن ننكر أن
المدينة العربية المعاصرة ترزح تحت ضغوط حضرية تجعلها في حالة فقد دائم للكثير من
المكتسبات الحضارية ، الأمر الذي يدفعها إلى المزيد من التشوه وفقد القيمة
الجمالية والتاريخية التي يفترض أن تعبر عنها هذه المدن، حتى أنها صارت تفقد
مخزونها التاريخي نتيجة لتقليدها للغرب وفي نفس الوقت لم تستطع اللحاق به، وكثير
من أجزاء المدينة القديمة تتوارى يوما بعد يوم تحت ضغوط "التمدن"، دون
الشعور بمسئولية أن المدينة هي فضاء للحياة ولا يمكن التفكير في قلب المدينة كمتحف
يجب المحافظة عليه بل يجب المحافظة على مساره الزمني ومن طبائع المدن أنها تحتفظ
بكل حلقاتها الزمنية .
وقد حدث انفصال عميق بين العمارة وبين من
يصممها ومن يستخدمها وهو الأمر الذي جعل من المدينة العربية على وجه الخصوص تقع
تحت ضغوط التحضر الذي فرضه النمو السكاني والذي أصبح ظاهرة عالمية بعد الحرب
العالمية الثانية ، وبذلك فقد المحيط العمراني مقدرته على توصيل حس المشاهدة وسقط
في دائرة الفوضى التي جعلت العمارة مجرد وظيفة نتيجة لهذه الفوضى الحضرية.
ولقد نشأت المدن
نتيجة الرغبة في التعايش كمجموعات بالنسبة للأفراد ،ولتحقيق الاستقرار الذي كان
يحاول الإنسان القديم جاهدا الحصول عليه، فمن الريف والصحراء والغابات ، بدأ ينتقل
تدريجيا للوصول إلى مفهوم جديد للتعايش، يضمن استقراره، ويحقق له في نفس الوقت
الحماية من كل المؤثرات الخارجية ، فكان تخطيط المدن القديمة ينطلق من نوعين
:التخطيط الدائري والتخطيط ذو المحاور المتعامدة أنظر الشكل-1-.ولقد وجهت الدراسة
دائما الباحثين للسؤال:متى وأين وتحت أي ظروف ظهرت هذه المدينة وماذا أسهمت به في
تاريخ المنطقة أو العصر؟وهل هناك نمو تطوري أو دوري في التاريخ الإنساني مرتبط
بظهور المدن أو نموها ؟ إن قيام المدن ونموها مسألة يصعب أن نتتبعها بدرجة ملحوظة
لأسباب عديدة، ومما لاشك فيه أن المدن انبثقت تعبيرا عن ظروف روحية ومادية
واجتماعية وسياسية ، وانعكست هذه الصور على تغير المدن ونمو العمارة ، وأكد
بارنز:"أن العمارة هي سجل لعقائد المجتمع"، ويقصد بنشأة المدن:"هي
مرحلة المدينة في فجر قيامها"، وتتميز بانضمام بعض القرى لبعضها البعض،
واستقرار الحياة الاجتماعية إلى حد ما ،وقد قامت المدينة في هذه المرحلة بعد
اكتشاف الزراعة وقيام الصناعات اليدوية. شكل -1- نشأة المدن
*المدينة(المفهوم
والتعريف والخصائص):
*مفهوم
المدينة: إن
المدينة خلاصة تاريخ الحياة الحضرية ، فهي الكائن الحي كما عرفها لوكوربزيه ، فهي
الناس والمواصلات وهي التجارة والاقتصاد، والفن والعمارة،والصلات والعواطف،
والحكومة والسياسة،والثقافة والذوق، وهي أصدق تعبير لانعكاس ثقافة الشعوب وتطور
الأمم ، وهي صورة لكفاح الإنسان وانتصاراته وهزائمه ، وهي صورة للقوة والفقر
والحرمان والضعف .
*تعريف
المدينة: بالرغم
من كثرة العلماء المهتمين بتعريف المدينة إلا أنهم لم يعطوا تعريفا واضحا لها ،ذلك
أن ما ينطبق على مدينة لا ينطبق على أخرى ، لأنها عرفت باختصاصات متعددة حسب وجهة
نظر كل عالم ، فمنهم من فسر المدن في ضوء ثنائيات تتقابل بين المجتمع الريفي
والحضري، ومنهم من فسرها في ضوء العوامل الايكولوجية، ومنهم من تناولها في ضوء
القيم الثقافية:
*إحصائياً: تشير الإحصائيات إلى أن كثافة أكثر من 10000شخص
في الميل المربع الواحد تشير إلى وجود مدينة بحسب رأي مارك جيفرسون، ومن مصلحة
الإحصاء في جامعة الإسكندرية تعرف المدينة بأنها تعتبر من الحضر والمحافظات
والعواصم المراكز، ويعتبر ريفا كل ما عدا ذلك من البلدان.
*قــانونـياً: هي المكان الذي يصدر فيه
اسم المدينة عن طريق إعلان أو وثيقة رسمية.
*حجمــياً: فقد عرفت المدينة في ضوء عدد
السكان ولقد أجمعت بعض الهيئات الدولية على أن المكان الذي يعيش فيه أكثر من 20000
نسمة فأكثر يعتبر مدينة ، أما في أميركا فقد أعتبرت أكثر من 2500 نسمة يشكلون
مدينة، أما في فرنسا فأكثر من 2000 نسمة يحددون مدينة، وكذلك في القطر السوري
فإنهم يعتبرون 2000 نسمة تشكل مدينة .
*إجتماعياً: المدينة ظاهرة إجتماعية، وهي
ليست مجرد تجمعات من الناس برأي روبرت بارك مع ما يجعل حياتهم أمرا ممكنا، بل هي
اتجاه عقلي ن ومجموعة من العادات والتقاليد إلى جانب تلك الاتجاهات والعواطف
المتأصلة في هذه العادات والتي تنتقل عن طريق هذه التقاليد، وهي في النهاية مكان
إقامة طبيعي للإنسان المتمدن ،ولهذا السبب تعتبر منطقة ثقافية ، تتميز بنمطها
الثقافي المتميز.
*وظيـفيـاً: لا يوجد للمدينة وظيفة واحدة بل لها عدة وظائف:
- فهي وحدة عمرانية ذات تكامل وظيفي،
فهي لا تشمل قطاع الزراعة فحسب (كما في الريف) بل تتعداه للصناعة والتبادل التجاري
والصناعات الثقيلة، وتجارة القطاعين الخاص والعام، والحرف وكل ماله علاقة بوصول
تطورها إلى العالمية، وتسمى هذه الصناعات بالصناعات الحضرية.
- ويصف ديكنسون المدينة بأنها
محلة عمرانية متكدسة، يعمل أغلب سكانها، بحرف غير زراعية كتجارة القطاعي والصناعة
والتجارة .
- أما د.عاطف غيث فيعرف المدينة
على أنها المكان الذي يعمل أغلب سكانه في مهن غير زراعية ، وما يجعل المدينة شيئا
محددا ،هو ذلك التكامل الوظيفي لعناصرها المختلفة على هيئة وحدة كلية.
*تاريــخـياً: وعرف ممفورد المدينة
بأنها حقيقة تراكمية في المكان والزمان ،ويمكن استقراء تاريخها من مجموعة
التراكمات التاريخية، والأخذ بالمبدأ التاريخي الذي يقول أن المدينة تاريخ قديم ،
وأن التعرف عليها يتم من خلال الشواهد العمرانية القديمة، وبالتالي فإن الحكم
عليها من هذا المنطلق غير مقبول .
*موقــعيـاً: تنشأ المدن في مواقع
مختارة تتمتع بأفضليتها عن سواها من المدن ،ويرى الجغرافيون أن المدينة حقيقة
مادية مرئية من اللاندسكيب ، يمكن تحديدها والتعرف عليها بمظهر مبانيها وكتلتها
وطبيعة شوارعها ومؤسساتها وكذلك تفردها بخط سماء مميز Urban Profile.
وهناك نقاط علام
جغرافية وعمرانية تحدد مفهوم المدينة موقعيا ، فالنقاط الجغرافية:
- نقاط جغرافية بيئية(خطوط الساحل، بحر، سلسلة جبال، أنهار وتلاقي فروع).
- عقد تلاقي طرق النقل(مواصلات، سكك حديد، سيارات).
- نقاط إستراتيجية تجمع بين مزايا البر والبحر(أنفاق ومواقع نقل جوي وبحري وضائق)
- وجود المباني المرتفعة والمتقاربة والمنازل ومكاتب الإيجار.
- عادات وتقاليد أهل الريف.
- كثرة وكثافة السكان العالية.
- المهن والحرف المتعددة.
- الهيئات الاجتماعية الغير موجودة في الريف.
- تميز المدينة بالحركة.
- تعقد الحياة والروابط بين سكان المدينة والمدن الأخرى.
- تعدد الأقليات في المدينة.
-
المدينة مركز إشعاع
ثقافي وفني وعلمي.
وأخيراً هناك تعريفات متعددة للمدينة أذكر
بعضها:
-
امتداد القرية على افتراض أن هناك تدرج مستمر بين ما هو ريفي وبين ما هو حضري.
- مجتمع محلي يتميز بمجموعة مركبة من السمات
التي يمكن إدراكها.
- عرف وورث المدينة بأنها المركز الذي تمتجانسة،تأثيرات
الحياة الحضرية إلى أقصى جهات الأرض، ومنها أيضا ينفذ القانون الذي يطبق على جميع
الناس.
- المدينة هي تجمعات سكانية كبيرة وغير
متجانسة ، تعيش على قطعة أرض محدودة نسبيا، وتنتشر منها تأثيرات الحياة الحضرية
المدنية ، ويعمل أهلها في الصناعة والتجارة والوظائف السياسية والاجتماعية.
- وهي وحدة جغرافية مساحية يعيش فيها عدد كبير
من السكان، تتباين مستوياتهم الاقتصادية والاجتماعية، ويترافق مصطلح المدينة مع
مفهوم الحضر والتحضر، حيث أنهم أوجدوا المفهوم بابتعادهم عن الريف، والأعمال
الزراعية، وأصبحت المجالات الصناعية رفيق التطور والمدنية.
*سمات
المدن:
تمثل
كل مدينة ظاهرة فريدة لاتتكرر، وبالتالي فمن الصعوبة تحديد سمات للمدن، إذ تفسر كل
مدينة في ضوء ظروفها التاريخية وعوامل نموها، وقد حدد لويس خصائص التحضر في مقالته
الشهيرة :"التحضر كأسلوب للحياة Urbanism as a way of life"-
الحجم ،الكثافة و اللاتجانس، فترتبط هذه العناصر فيما بينها ارتباطا وثيقا
مما يؤدي لوجود تجمع من الناس يتسم بكبر الحجم وشدة الكثافة واللاتجانس،وربما كانت
خاصية التمايز واللاتجانس الاجتماعيين أبرز ما يميز الطابع الحضري نظرا لما تتصف
به المدينة من اختلافات شديدة من حيث المهن والمراكز الإجتماعية والإقتصادية،
يجعلنا نقول أن المدينة هي مكان يعمل سكانه في أغلب المهن ما عادا الزراعة وهي
بيئة صناعية يتزايد تحكم الإنسان فيها وبحياته ووقته وإنتاجه.
*ومن
السمات العامة للمدن:
1- المــهنـة: تخصصت في :الوظائف الإجتماعية:(دفاع،دين،ثقافة،إدارة،ترفيه).
الوظائف
الاقتصادية:(تجارة، صناعة، إنتاج، خدمات).
وينتج عن ذلك أن المدينة تنقسم إلى مواقع
ومناطق مميزة، فهناك أقسام للسكن، وأقسام للتجارة، وأخرى للصناعة، ورابعة للنزهة
والترفيه، وينقسم السكن إلى مناطق للطبقات الفقيرة، المتوسطة والغنية.
2-المظاهر
الثقافية: تمتاز المدينة بأنها كبيرة ومتنوعة وبها ميادين فسيحة وم، وبالتاليما
ومعارض ومتاحف ومقاهي، وفي العمارة ترى العمارة الحديثة إلى جوار المبنى القديم ،
وحي الأغنياء ملاصقا لحي الفقراء، كل هذه الأضداد مجتمعة في المدينة وهي بوتقة
تختلط فيها الأجناس والثقافات ، وهي تسمح وتشجع تأكيد الفروق الفردية باستمرار،
وللناس فيها طبائع متباينة بعضها ريفي والآخر مستورد من الخارج.
3-
الإنسان الحضري: مع نمو حجم المدينة يقل معرفة الفرد بالآخرين معرفة
شخصية،وبالتالي تصبح العلاقات الاجتماعية سطحية ومؤقتة، ولا يتصف إنسان المدينة
بالتنقل، ولا يقف موقفا جامدا إزاء التقاليد.
4- التشريعات
القانونية: تبرز هذه التشريعات للضبط الاجتماعي في المدينة لتحل محل طاعة
التقاليد، وذلك بصفتها وسيلة أساسية لتنظيم علاقات سكان المدن وحياتهم الاقتصادية.
5-
إمتداد حدود المدينة للخارج: لا تقف المدينة عند حدودها المحلية، بل تمتد خارج
حدودها وتؤثر وتسيطر على المناطق التي تقع خارج هذه الحدود .
ومن خصائص
المدن عند تطبيق شروط الظاهرة الإجتماعية عليها:
· تمتاز بأنها ذات طبيعة إنسانية بثلاث طبائع(حيوية، نفسية
واجتماعية).
· المدينة تلقائية النشأة ، حيث تكون في البداية مجموعة
متناثرة من المنازل التي بنيت لمجرد الإيواء، ثم تتجمع لتعطي القرية،وتتسع القرية
نتيجة للتزايد السكاني وتنوع حرفهم ويزداد الدخل القومي في القرية لتتحول لمدينة
صغيرةTown
وعندما تتوافر فيها المصانع ووسائل المواصلات والخدمات تنمو لتصبح مدينة رئيسيةCity وهذا يعني أن المدينة كظاهرة
إجتماعية ليست من صنع أفراد ،ولكنها من صنع لمجتمع ،وبوحي من العقل الجماعي .
· المدينة ظاهرة عامة منتشرة في كل المجتمعات، وتفرض نفسها
على سائر أنحاء المجتمع.
· تمتاز المدينة بموضوعيتها وشيئيتها،أي أن معرفتنا بها
تستمد من الواقع فلكل مدينة تراث اجتماعي .
· تمتاز المدينة بالترابط، بمعنى أنها تتصل بأجزائها عن
طريق المواصلات المختلفة، على إعتبار أن النظام السياسي في المدينة مثلا يرتبط
بالأنظمة التعليمية والاقتصادية والدينية وحتى النظام الأسري.
· تتزود المدينة بصفة الجبر والإلزام، فالأفراد ملزمون
بالحياة فيها عندما تكون لديهم الرغبة بالإستمتاع بمظاهر الحياة الحضرية الراقية
والتعليم والترفيه.
· تمتاز المدينة بصفة الجاذبية.
إرسال تعليق